تمخضت الحرب العالمية الأولى عن نتائج عسكرية وسياسية عدة، كان أبرزها سيطرة الإنجليز على فلسطين ومنها مدينة غزة، التي ثار أهلها ضد حكومة الانتداب التي كانت في ذلك الوقت آخذة في تمكين اليهود في فلسطين بهدف إقامة وطن قومي لهم، استنادًا إلى وعد بلفور المشؤوم.
لا يمكن فهم أسباب سيطرة الإنجليز على غزة وباقي المدن الفلسطينية دون الرجوع إلى مقدمات أوجدتها الحرب العالمية الأولى (1914-1918). ويذكر عارف العارف في كتابه «تاريخ غزة»، أنه أثناء هذه الحرب هاجم الأتراك مصر، بهدف إشغال الإنجليز وتخفيف الضغط عن الدردنيل الذي كان يئن تحت نيران قوات الحلفاء، وكان الأمل قويًا أن تثور مصر ومن ورائها السودان بمجرد اقتراب الجيش التركي من الحدود أو عبور قناة السويس، فإذا تحكم الأتراك في هذه القناة عرقلوا وسائط النقل بين إنجلترا والهند، ومن ثم قد يضطر الإنجليز إلى أن يختاروا طريقًا للهند غير قناة السويس، وهو رأس الرجاء الصالح، وفي هذا كلفة وعناء ووقت طويل، وهذا ما كان يرمي له الأتراك، ويعضدهم في ذلك حلفاؤهم الألمان.
وعندما فشلت حملة الأتراك في تنفيذ مخططاتهم أمام نيران قوات المدفعية البريطانية، قاموا بحملة ثانية على قناة السويس، لكنها فشلت أيضًا، وتكبدوا خسائر فادحة، ومن هنا راح الإنجليز يفكرون في الاستيلاء على فلسطين بعد أن كانوا قانعين بالدفاع عن مصر، وذلك بناءً على قرار أصدرته وزارة الحرب البريطانية.
وبناءً على هذا القرار، وضع قائد القوات البريطانية السير ارشيبالد موري، جميع القوى الإنجليزية الموجودة شرقي قناة السويس تحت إمرة اللفتنانت جنرال السير تشارلس دوبل، فرسم بدوره خطة وافق عليها القائد العام، وتقضي بالتقدم إلى الأمام واحتلال وادي غزة، ثم تُهاجم غزة نفسها.
وبحسب العارف، تقدم الإنجليز بحذر نحو العريش رغم تفوقهم في العدد على الأتراك، فهاجموها ووجدوها خالية، فاحتلوها في 20 ديسمبر 1916، لكن الأتراك تحصنوا في وادي العريش، وهاجموا الإنجليز وكبدوهم خسائر فادحة، ثم انسحبوا من سيناء نهائيًا ليتحصنوا في خط الدفاع المقرر جنوب فلسطين، فتقدم الإنجليز واحتلوا رفح في 10 يناير 1917، وهم يمدون خط السكة الحديد أثناء زحفهم، وكذلك أنابيب المياه، فوصلوا إلى خان يونس في 28 فبراير.
وتحصن الأتراك في مدينة غزة بين تلة المنطار والشاطئ، ووضعوا الاستحكامات بين أشجارها وخرائبها، كما خزّنوا الذخيرة في الجامع الكبير، مما عرضه إلى ضرب القنابل من أسطول الحلفاء.
وفي 20 مارس 1917، اتخذ الجنرال دوبل رفح مقرًا لقيادته، ثم أصدر أوامره للجند بالزحف على غزة في 26 من نفس الشهر، إلا أن قواته لم تتمكن من احتلال غزة نفسها، فانسحب الإنجليز من مواقعهم، وفي 17 أبريل من نفس العام شن الإنجليز هجومًا ثانيًا لكنهم فشلوا أيضًا في احتلال المدينة.
ونتيجة هذا الفشل، بدلّت القيادة البريطانية قيادة الجيش، فولّت القيادة العامة لقائد جديد هو السير أدموند اللنبي، يساعده في الميدان الجنرال شتود. وفي اليوم الأول من شهر نوفمبر عام 1917 أخذ الإنجليز يزحفون نحو غزة، وأمطروها بالقنابل، وبعد عدة معارك تمكنوا من دخول المدينة، روى العارف.
ورغم أن احتلال الإنجليز لغزة وباقي المدن الفلسطينية كان إحدى نتائج الحرب العالمية الأولى، فإنه لا يمكن فصل ذلك عن صدور وعد بلفور الخاص بمساعدة بريطانيا لليهود في إنشاء دولة لهم في فلسطين. ويذكر إلياس شوفاني في كتابه «الموجز في تاريخ فلسطين السياسي منذ فجر التاريخ حتى سنة 1949»، أن إصدار وعد بلفور كان يحتم على حكومة بريطانيا أن تتولى تنفيذه، ولن يتم ذلك إلا ببسط سلطتها على فلسطين، ولعل هذا الوعد صدر لهذا الغرض بالذات، أي التمهيد لوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وإخراجها من حلبة المنافسة الدولية.
ولدى إصدار هذا الوعد لم تكن الحركة الصهيونية في وضع يؤهلها لتحمل تبعاته، فخلال الحرب توقفت المؤتمرات الصهيونية عن الانعقاد، وتعرقلت أعمال اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية، وانقطعت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، بل واجتاحت المستعمرات اليهودية موجة نزوح إلى الخارج، وفي الوقت نفسه كانت أغلبية يهود العالم لا تزال خارج الدعوة الصهيوينة، ووُجدت تيارات قوية بينهم تعارضها –أي الصهيونية- بشدة، وذلك لأسباب فكرية ودينية وسياسية واجتماعية، كما أن أغلبية يهود أوروبا الشرقية كانت تفضل الهجرة إلى الولايات المتحدة وليس فلسطين. وفي المقابل، كانت المقاومة العربية للمشروع الصهيوني في تصاعد، والاستيطان اليهودي في تراجع، بحسب ما ذكر شوفاني.
ولمجمل هذه الأسباب، أرادت القيادة الصهيونية من حكومة بريطانيا وضع فلسطين تحت انتدابها، لتشكل بذلك حاضنة للمشروع الصهيوني، ولترعى بناءه وتهيئته للتحول إلى دولة يهودية عندما تتهيأ الظروف الذاتية والموضوعية لذلك.
أيًا كانت الأسباب، فقد دخل البريطانيون غزة، ووجدوها قاعًا صفصفًا، وليس بها أثر للجنود ولا للأهالي، فقد حمل العثمانيون سكانها جميعًا على الرحيل، وكانت الشوارع أشبه بحجرة خالية، وكانت مدافع البريطانيين قد التهمت المنازل والمباني، بحسب ما يروي هارون هاشم رشيد، في كتابه «قصة مدينة غزة».
وباحتلال غزة، بدأ فصل جديد في تاريخ هذه المدينة، وبدأ سكانها يعودون إليها ويعمرّونها، ورغم أن عدد الذين رحلوا عنها بلغ نحو 28 ألفًا، فقد عاد إليها نحو 18 ألفًا، وبقي الآخرون في يافا وحيفا، حيث شكلوا جاليات صغيرة، كما بقيت أعداد ضئيلة منهم في مدن وقرى أخرى من فلسطين وسوريا.
وبحسب رشيد، أحكمت بريطانيا مؤامراتها، وحددت أهدافها، وبدأت في تنفيذ مخططها، فوضعت البلاد بين عامي 1917 و1920 تحت الحكم العسكري، وقسمتها إلى ألوية يحكم كلًا منها حاكم عسكري.
وفي اليوم التالي لإنهاء الحكم العسكري، تقلد الحكم السير هربرت صمويل، كمندوبٍ سامٍ على فلسطين ومعه هيئة إدارية مدنية، وأُعلنت اللغات الثلاث العربية والإنجليزية والعبرية لغات رسمية.
وبحسب هاشم، لم يكن مصادفة تعيين هربرت صمويل اليهودي الصهيوني مندوبًا ساميًا على فلسطين، إنما قُلّد هذا المنصب لكي يبدأ تنفيذ مخططه الصهيوني لاحتلال فلسطين مؤيدًا بدولته بريطانيا، ومحصنًا بما تضمنه صك الانتداب البريطاني من نصوص تبرر له تصرفاته، وتساعده على تنفيذ مخططاته، فصك الانتداب البريطاني الذي تم تثبيته عام 1922 كان مثالًا صارخًا للجور والاستهانة بحقوق الشعوب.
ووفقًا للانتداب وصكه، أخذت بريطانيا على عاتقها وضع فلسطين في حالة اقتصادية واجتماعية وسياسية تهيئ لقيام الوطن اليهودي، والعمل على تنفيذ وعد بلفور، والالتزام به.
وبناء على هذه المعطيات، شاركت غزة مدن فلسطين في مواجهتها للانتداب البريطاني ومقاومتها للصهيونية، وبدأت ذلك فور عودة أبنائها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، فتكونت في غزة عام 1920 جمعية إسلامية مسيحية، على غرار الجمعيات التي تكونت في معظم المدن الفلسطينية لتنسيق العمل الوطني، وإبراز وحدة الشعب وتماسكه.
وظهر الوعي الوطني في غزة لدى زيارة وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل عام 1921، وكان في طريقه من القاهرة إلى القدس، ومعه عدد من الساسة البريطانيين، بينهم السير هربرت صموئيل المندوب السامي لفلسطين. وبحسب رشيد، نزل هؤلاء من القطار لتفقد المدينة ومشاهدة آثارها، فقابلهم السكان بمظاهرة صاخبة وهتافات معادية بالحجارة، فحالوا بينهم وبين حضور حفل أُعد في غزة على شرفهم، وعادوا تحت الحراسة المشددة.
ويذكر رشيد، أن نشاط الجمعية الإسلامية المسيحية في غزة كانت كمثيلاتها في جميع أنحاء فلسطين، تطالب باستقلال فلسطين، وإلغاء الانتداب، ومنع هجرة اليهود، وعندما حدثت اضطرابات 1929 التي تحولت إلى ثورة البراق، شاركت غزة في الانتفاضة، فقام الغزيون بمهاجمة المطار الحربي البريطاني شرقي غزة، ومواجهة القوات البريطانية التي تحرسه، كما هاجم الشباب مستوطنة بيار تعبيا، قرب منطقة بيت دارس، ودمروا المنشآت فيها، وطردوا من كان فيها من اليهود، وكان عددهم لا يزيد على أصابع اليد، وكانوا يعيشون في غزة قبل الانتداب والصهيونية في أمان.
كما شاركت غزة في إضراب 1936، بل كانت تقود السيطرة على المنطقة المحيطة بها، وقام أهلها بنسف خطوط المواصلات وعرقلة الدوريات البريطانية عند أداء مهماتها. وبحسب رشيد، برز كثيرون من شباب غزة في تلك المرحلة، مثل الشهيد مدحت الوحيدي الذي لُقب بـ«سهم الموت»، لسرعة تحركاته، وغاراته.
وأمام ما كانت تواجهه السلطات البريطانية من هجمات متوالية على مواصلاتها من قبل ثوار غزة، قامت بحظر التجوال، وفرضت غرامة مشتركة قدرها ألف جنيه، وبإجراء تفتيش دقيق ونسف بعض البيوت، وجمع الغرامات بالقوة، ولكن أهالي غزة توجهوا بشكوى إلى المحكمة العليا بالقدس التي حكمت بإلغاء القرار الصادر ضدهم في 7 يوليو 1936.
ومن المظاهرات العنيفة التي اندلعت في غزة ضد الانتداب البريطاني اثنتان، خرجت إحداهما من الجامع العمري الكبير، واستُشهد أحد المشاركين فيها ويدعى عزالدين أبوشعبان، برصاص الجند البريطانيين، بحسب رشيد.
أما المظاهرة الثانية فبدأت باجتماع شعبي كبير في باحة الروم الأرثوذكس، وقامت بتخريب قضبان السكك الحديدية، وأعمدة الهاتف، وأسلاك البرق، وإثر ذلك زادت السلطات البريطانية من قواتها في غزة وفرضت منع التجوال وأكثرت من الاعتقال والسجن.
ولم يتحمل السكان العرب هذا الوضع، فعادوا لحمل السلاح، واجتاحت الثورة أنحاء البلاد، وشددت سلطات الاحتلال من إجراءاتها القمعية، فسجنت واعتقلت وأعدمت ونفت كبار الزعماء من أعضاء اللجنة العربية العليا إلى جزر سيشل في المحيط الهندي، وامتلأت معتقلات عكا وصرفند والعوجا، وكان الثوار يضعون الألغام على خطوط السكك الحديدية لتفجير القطارات العسكرية.
وبحسب رشيد، لم تجرؤ القوات البريطانية على التجوال داخل غزة، وغيرها من المدن الفلسطينية الثائرة، واقتصرت مهمتها على تأمين السير على الطرق الرئيسة، بخاصة في الجهات التي يكثر فيها اليهود، ولهذا اشتد نشاط المناضلين العرب في المنطقة الوسطى من فلسطين حول يافا والطرق المؤدية منها إلى حيفا وإلى القدس، وانتشرت قواعدهم في الغابات والبيارات وعلى رؤوس الجبال الوعرة، وعمل أبناء غزة المكافحين في تلك المناطق.
ولما كان الإنجليز يجلبون إمداداتهم العسكرية من قواعدهم على قناة السويس في مصر عن طريق الخط الحديدي المار بغزة، فقد أصدر قائد الثورة العام عبدالرحيم الحاج محمد، المعروف بـ«أبوكمال»، أمرًا بخلع قضبان السكة الحديدية من رفح إلى اللد، واتصل بأنصاره من قادة المناضلين في هذه المناطق، فتقرر تنفيذ هذا الأمر في ليلة واحدة في 14 مايو 1938، حيث خرج فيها الأهالي –رجالًا ونساء– من جميع المدن والقرى القريبة من هذا الخط، ونزعوا القضبان الحديدية وأحرقوا الألواح الخشبية تحتها.
ولهذا السبب، تعرضت قرى غزة الشمالية والوسطى إلى أعمال انتقام بريطانية، من تطويق ونسف وجمع غرامات، وإطلاق النار على بعض الشباب بحجة أنهم حاولوا الفرار.
ويروي رشيد وقائع حادثة، حيث انفجر لغم على الطريق العام تحت سيارة بريطانية، فعمدت القوات البريطانية إلى أقرب قرية تطوقها بالدبابات والسيارات المسلحة، وتحوم فوقها طائرات حربية، وتطلب بمكبرات الصوت خروج جميع الرجال إلى ساحة القرية للتشخيص، وفي أثناء ذلك كانت القوات تفتش البيوت وتدمر وتنسف.
ونتيجة لذلك، أوصى الخبير البريطاني السير تشارلز تيجارت بإنشاء دور للحكومة من الأسمنت على شكل قلاع يصعب على المناضلين مهاجمتها ويسهل الدفاع عنها، ومن هذه الحصون خمسة في غزة وخان يونس والمجدل والجورة وعراق سويدان والبطاني، وعُرفت هذه الدور بـ«عمارات تيجارت».
وكان من المنطقي أن تؤثر هذه الأحداث على كل مناحي الحياة الاقتصادية في غزة. يذكر مصطفى مراد الدباغ في موسوعته «بلادنا فلسطين»، أن الحالة الاقتصادية الحسنة التي كانت عليها غزة في أواخر العهد العثماني قد زالت في العهد البريطاني المشؤوم، فالمعارك التي جرت فيها كادت تقضي عليها، فاضطر الأهالي إلى هجرتها، وقاسوا في ذلك الأهوال، مما فت في عضد هذه البلدة العريقة، بخاصة أن السلطات البريطانية لم تعمل على إقالتها من عثرتها وإعادة إعمارها وثرواتها.
وأبرز ما تأثر بهذه الأوضاع المضطربة تجارة الشعير، أحد أهم المحاصيل التي كانت تزرع في غزة، إذ لم يتجاوز ما صُدّر منه في أي سنة في العهد البريطاني 1600 طن.
كما توقف إنتاج المصانع. يذكر الدباغ، أنه في عام 1933 تألفت شركة مقالع الكبريت الفلسطينية المحدودة، وهي شركة إنجليزية عربية، وقامت باستخراج الكبريت من ظاهر غزة الجنوبي، وكانت تنتج أيضًا من عملية استخراج الكبريت رمل أبيض يصلح لصنع الزجاج، وكان للثورات الفلسطينية والحرب العالمية الثانية (1939-1945) أعمق الأثر في وقف عمليات هذه الشركة.
وفي 15 مايو عام 1948 أنهت بريطانيا انتدابها لفلسطين بمثل ما بدأته، فأعطت ما لا تملك لمن لا يستحق، ووضعت البلاد في أحوال سياسية واقتصادية واجتماعية تهيئ لقيام الوطن القومي اليهودي، وذلك من خلال تشريعات وقوانين جائرة تعتدي على حقوق أهل البلاد الشرعيين، ملتزمة بذلك بما تعهدت به للصهيونية وتنفيذًا لوعد بلفور المشؤوم.
ويروي الدباغ، أنه قبيل انسحاب البريطانيين من غزة بأيام قليلة، سلموا مطارهم العسكري الواقع على بعد كيلومترين من المدينة إلى البلدية، وما كان العرب يتسلمونه حتى هاجمه سكان المستعمرات اليهودية المجاورة، واشتبك الفريقان، وانتصر العرب وأوقعوا في صفوفهم بعض القتلى.